الإِسْتِقَامَةُ وَالحَثُّ عَلَى لُزُومِهَا
التاريخ : 2016/01/15
(عدد المشاهدات7986 )
( تحميل1159 مرة )
إنّ الحمد لله نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ نبيّنا محمّداً عبده ورسوله، ﱡﭐ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱠ [آل عمران: ١٠٢].
ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ [النساء: ١].
ﱡﭐ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﱠ الأحزاب: [٧٠ – ٧١].
ألا وإنّ أصدق الكلام كلام الله جلّ وعلا، وخير الهدي هدي نبيّنا محمّد صلوات الله وسلامه عليه، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالةٍ في النّار، ثم أمّا وبعد: فأوصيكم ونفسي عباد الله بخير ما أوصى به الله عزّ وجلّ الأوّلين والآخرين؛ وهي تقواه جلّ وعلا، وتحصل بملازمة أمره واجتناب نهيه، وفّقنا الله سبحانه وتعالى لكلّ سبيل يقودنا إلى تقواه في الدّنيا والآخرة، ثمّ اعلموا رحمني الله وإيّاكم أنّ الأخلاق الكريمة والسّجايا النّبيلة هي صلب هذه الشّريعة وجماع الدّين الّذي بعث به اللهُ عزّوجلّ نبيَّه محمداً -صلوات الله وسلامه عليه- فلابدّ إذاً من تحقيقها في النّفس المؤمنة حتّى تفلح وتفوز وتقوم على أمر الله عزّ وجلّ؛ فإنّ الله جلّت عزّته بيّن للنّاس آياتِه وفصّلها لهم كي تقوم على أمر الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: ﱡﭐ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﱠ [البقرة: ١٨٧]. وقال: ﱡﭐ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﱠ [البقرة: ٢٤٢]. وقال: ﱡﭐ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﱠ [البقرة: ٢٤٢].
وهذا البيان أيّها المؤمنون يتمثّل في المنهج السّويّ والصّراط المستقيم الّذي ألزم الله سبحانه وتعالى به عباده كَيْما يسيروا عليه ويلتزموا به في سلوكهم وتعاملهم، ومع الحقّ سبحانه ومع غيره من الخلق، ولهذا فإنّ الله تبارك وتعالى ألزمنا باتّباع صراطه المستقيم الاتّباع الخالص والصّادق والكامل، وإلّا خاب الإنسان في تلمّس هذا الطّريق، وإن هُدِيَ إليه فإنّه لا يثبت عليه، والله عزّ وجلّ أشار إلى هذا في كتابه الكريم في قوله: ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱠ [الأنعام: ١٥٣]. فبيّن الله سبحانه وتعالى أنّ صراطه المستقيم وطريقه في هذا المنهج السّليم السّويّ، وأنّ من اتّبعه فلا يخاف على نفسه هضماً ولا ظلماً، آمنٌ من الفزع والخوف قبل الموت وبعده، وظفر برضوان الله عزّ وجلّ ونعيمه عندما يظهر له في الآخرة، ولن يتحقّق الأمن من الزّيغ والضّلال والظّفرُ بنعيم الله عزّ وجلّ ورضوانه إلّا بلزوم هذا الصّراط وبتحقّق القدوة برسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في جميع أخلاقه الّتي كان عليها وكان يدعو إليها عليه الصّلاة والسّلام.
والله تبارك وتعالى قد بيّن أنّ أفضل من يُقتدى به في تلمّس هذا الصّراط ومعرفته هو النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام؛ فهو أحسن من مثّل هذا الصّراط المستقيم بلزومه عليه الصّلاة والسّلام لكثيرٍ من الأخلاق والسّجايا النّبيلة، ولهذا قال له الله عزّ وجلّ: ﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱠ [الشورى: ٥٢ – ٥٣] . يقول العلّامة ابن الحازم $ في رسالته المعروفة بـ «تهذيب الأخلاق»: «من أراد خيرَ الآخرة وحكمةَ الدنيا وعدلَ السيرةِ والاحتواءَ على محاسن الأخلاق كلِّها واستحقاقَ الفضائلِ بأسرها فليقتدي بمحمّدٍ ﷺ وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكن» ذلك بأنّ الأخلاق الّتي جاء بها النّبيّ ﷺ هي الدّين الّذي بُعِث به وأُمِر بتبليغه للنّاس كافّة، كيف لا وقد صحّ عن النّبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- أنّه قال: « إنّما بُعِثت لأتمّم مكارم الأخلاق» ورحم الله ابنَ القيّم لمّا قال: «الدّينُ كلُّه خُلقٌ، فمن زاد عليك في الخُلق شيئاً فقد زاد عليك في الدّين».
ولمّا كانت عباد الله هذه الأخلاقُ كثيرةً متشعّبةً وبعضها يتفرّع عن بعض، وربّما قد يصعب على كثيرٍ من النّاس التّعرّف عليها فضلاً عن التزامها والعمل بها، كان من الواجب لما كان أن يعرف المسلم الخلق الجامع لهذه الأخلاق الّذي يكون بمثابة الأصل الّذي يصدر ويتفرّع عنه كلّ خلق كريم وأجل رفيع، ولا يوجد من جملة هذه الأخلاق التي كان عليها النّبيّ ﷺ ودعا إليها أمّته من ذلك الخلق الّذي يستحقّ مثل هذا التّنويه ويحرص على قصد السّوق من جملة الأخلاق والعادات كخلق الاستقامة والالتزام بشرع الله عزّ وجلّ الّذي صار للأسف الشّديد أندر بضاعةٍ في سوق التّعامل عند المسلمين، وقد اهتمّ الإسلام بهذا الخلق اهتماما بالغاً، وأولاه عنايةً خاصّةً، وجعله في أعلى المقامات؛ إذ به يصل السّالك إلى الله عزّ وجلّ إلى الذّروة من الكامل، حتّى قال ابن القيّم $ وغيره من العلماء: «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة» فإنّ من لازم الاستقامة لا ينافق ولا يخدع، ومن كان كذلك اجتمعت فيه خصال الولاية الّتي يستحقّ بها دفاعَ الله عزّ وجلّ عنه، فيكون الإنسان إذا التزم بالاستقامة كريماً في نفسه، كريماً على الله سبحانه وتعالى، قال شيخ الاسلام مبيّناً وشارحاً لمعنى هذا الخلق: «﴿استقاموا﴾ بمعنى: استقاموا على محبّة الله وعبوديّته، فلا يلتفت عنه يمنةً ولا يسرة» وهذا تعريفٌ جامعٌ للاستقامة، أي: استقاموا على محبّة الله وعبوديّته، فدعوى حبّ الله عزّ وجلّ لا تكون إلّا بالتزام أمره وعبوديّته -تبارك وتعالى- ولا يصدر من الإنسان إلّا ما يُرضِي الله عزّ وجلّ، وإن زلّت به قدم ووقع في الذّنب رجع إلى الله تائباً نادماً راغباً فيما عند الله -سبحانه وتعالى- ونحن عباد الله إذا تأمّلنا في مدلول كلمة الاستقامة وجدناها في معناها اللّغويّ في تركيب لفظها تحتمل وتتضمّن جملةً من المعاني الطّيّبة؛ فهي تفيد معنى الاعتدال والالتزام، يُقال فلان قام أمره، أي: إذا استقام واعتدل، وضدّه الطّغيان، ومن معاني كلمة الاستقامة المحافظة والملازمة والثّبات، تقول هذا إنسان قام على أمره، ومنه قوله تعالى: ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﱠ [آل عمران: ٧٥]. أي: محافظاً وملازماً، ويُقال قام قومٌ على الحقّ أي: ثبتوا عليه ولم يبرحوا، ومنه قوله تبارك وتعالى: ﱡﭐ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﱠ [آل عمران: ١١٣]. أي جماعةٌ ثابتةٌ على الدّين متمسّكة به. ومن معاني الاستقامة الصّلاة والنّهوض بالتّبعات، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱠ [النساء: ٣٤].
ومن معاني الاستقامة أيضا القيام والدّوام والاستمرار؛ لأنّه مشتقٌّ من مادّة القيام، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيّه : ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﱠ [هود: ١١٢]. قال ابن عطيّة $ في تفسير هذه الآية : «وأمر النّبيّ ﷺ بالاستقامة وهو عليها أمر له بالدّوام والاستمرار عليها» كقولكَ لإنسانٍ أو أمركَ لإنسان بالأكل أو بالشّرب ونحوه وهو متلبّسٌ به، ولهذا فسّر بعض أهل العلم قول الله عزّوجلّ: ﱡﭐ ﲹ ﲺ ﲻ ﱠ [المائدة: ٥٥]. أي: يديمونها، أي من معاني إقامة الصلاة الاستمرار عليها حتّى الممات. فهذه المعاني عباد الله المستنّة من هذه المادّة تدلّ على أنّ الاستقامة معناها القيام على أمر الإسلام ودوام الهدى و دوام البقاء على هدي الله سبحانه وتعالى والاستمساك بشرعه فعلاً وتركاً والوقوف عند حدوده والتزام أمره واجتناب حرماته، ولهذا قال الإمام ابن القيّم رحمه الله في تعريفه للاستقامة: «هي كلمةٌ جامعةٌ أخذت بمجامعِ الدين، وحقيقتُها القيامُ بين يدي الله عزّوجلّ على حقيقة الصّدق والوفاء بالعهد، وهي تتعلّق بالأقوال والأفعال والأحوال والنّيّات» وقد أورد $ في كتابه الكبير «مدارج السّالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» تفسيراتٍ ومقولاتٍ لسلف هذه الأمّة -رحمة الله تعالى عليهم- أحببت أن أنقل لكم بعضها لنفاستها في علم هؤلاء الأصحاب بسرّ كتاب الله عزّ وجلّ، فنقل عن أبي بكر الصّدّيق ﭬ قولَه: «الاستقامة ألّا تُشرك بالله» وهذا تفسيرٌ لها بالمثال، قال ابن القيّم $ شارحاً قولَ أبي بكرٍ الصّدّيق : «معناه الاستقامة على محض التّوحيد» فإنّ من استقام على صدق التّوحيد فإنّه سيثبت أو يستقيم على الصّراط السّويّ في قوله وعمله، وفي أفكاره وخواطره، ويدلّ قول أبي بكر الصّدّيق ﭬ لمّا فسّر الاستقامة بأنّها: لا تشرك بالله شيئاً إلى شيءٍ مهمٍّ؛ وهو أنّ كلّ دعوةٍ تنتسب إلى الاسلام لابدّ أن تنطلقَ من الدّعوة إلى التّوحيد الصّافي النّقيّ ولا تزيغَ عنه، لأنّه به تنمو وتنضج وتكتمل، وإليه تنتهي، فكلّ استقامةٍ أو توفيقٍ في القول والعمل وفي الأحوال وفي السّلوكات وفي الأفكار مرجعه إلى صدق التّوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى حق الإيمان، ثم ذكر رحمه الله قول عمر بن الخطاب في تفسير الاستقامة ؛ قال عمر بن الخطاب: الاستقامة أو استقاموا: «أدّوا الفرائض لله تبارك وتعالى» أو استقاموا: «عملوا بما أمر الله عز وجل» ونقل أيضا ًعن عليِّ بنِ عبّاس قوله : «الاستقامة أداء الفرائض» ونقل عن الإمام الحسن قال: الاستقامة: «العمل بأمر الله بفعل طاعته واجتناب معصيته» ونقل عن مجاهد قوله أنّ الاستقامة هي: «الثّبات على شهادة لا إله إلّا الله حتّى يلحقوا بربّهم» وكلّ هذه المعاني عباد الله وهذه التفسيرات تصبّ في قالبٍ واحدٍ، وهي كما قال أبو قاسم القوشوري : «الاستقامة هي درجةٌ بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها فمن لم يستقم أو ضيّع شيئاً من هذه الاستقامة المأمور بها فقد خاب بسعيه وضيّع جهده» ولذلك قيل أنّ الاستقامة هي الحسنة الّتي إن وُجدت وُجدت المحاسن وإن فُقِدت فُقِدت المحاسن.
أسأل الله العليّ الكريم أن يهدينا سواء الصّراط، وأن يرزقنا الاستقامة في القول والعمل والفعل والسّلوك إنّه سبحانه وتعالى وليّ ذلك والقادر عليه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب يغفر لكم وهو الغفور الرّحيم.
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أنّ نبيّنا محمّداً عبده ورسوله -صلّى الله عليه في الأوّلين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيا عبادَ الله! إذا كان المسلم الموفّق يحتاج إلى دليل وإلى قائد يقوده إلى الصّراط المستقيم، ويدلّه على سواء الصّراط، فلن يجد قائداً ولا دليلاً ولا رائداً أفضلَ وخيراً من كتاب الله تبارك وتعالى، الّذي يقول الله عزّ وجلّ فيه: ﱡﭐ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱠ [الإسراء: ٩]. ومعنى هذا أنّ هذا القرآن يهدي للحال الّتي هي أقوم الأحوال، ويدعو إلى الطّريق الّذي هو أعدلُ الطّرق وأفضلها، يقول الله سبحانه وتعالى عن كتابه: ﱡﭐ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﱠ [التكوير: ٢٧ – ٢٩]. ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى في كتابه يحثّ المؤمنين على لزوم الاستقامة بأسلوب يستهوي الأفئدة ويهزّ النّفوس ويؤثّر فيها، حتّى تتّمسك بهذا الخُلُق العظيم الّذي يُترجِم كلّ خير في الإنسان، ويبعد كلّ شرّ يمكن أن يدخلَ سريرةَ الإنسان أو يتّصف به في سلوكاته وأعماله.
من الآيات العظيمة في هذا الباب قوله سبحانه وتعالى في سورة فصّلت: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱠ [فصلت: ٣٠ – ٣٢] هذه الآية الكريمة -عباد الله- تضمّنت ثلاثة أمورٍ:
-مفتاح الطّريق إلى الاستقامة.
- وواجب أهل الاستقامة.
- وثواب أهل الاستقامة.
فمفتاح طريق الاستقامة هو توحيد الله عزّ وجلّ والإيمان به ؛ كل ما يتعلّق بأنواع التّوحيد في ربوبيّته وألوهيّته وأسمائه وصفاته، وهذا بيّنه الله عزّ وجلّ في قوله: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱠ.
ثمّ بيّن بعد ذلك واجبات الدّعاة إلى الله سبحانه وتعالى أو الواجب الّذي يُريه الله عزّ وجلّ لمن استقام على شرع الله وكتب نهجه؛ فقال الله عزّ وجلّ مبيّناً أنّها العمل الصّالح وأنّه الدّعوة إلى الله وأنّه الاعتزاز بالانتساب إلى هذا الدّين، أن تكون عزيزاً لمّا تسمّي نفسك بأنّك مسلمٌ، قال الله عزّ وجلّ: ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱠ [فصلت: ٣٣].
ثمّ ذكر بعد ذلك ثواب الّذين استقاموا على نهجه فقال: ﱡﭐ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱠ [فصلت: ٣١] أمّنهم الله عزّ وجلّ من الخوف والحزن؛ الخوف هو ما يأتيهم في المستقبل هذا أمّنهم الله عز وجل منه لأنّه أعدّ لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأمّا الحزن على ما فاتهم فإنّ الله عزّ وجلّ يتولّى أولادهم وذريّاتهم، فلا يخافون بخساً ولا رهقاً، والعبد المستقيم تتنزّل الملائكة لمّا تفارق روحه بسلام تقول: ﱡﭐ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱠ. وهذا نوع من أنواع التّثبيت، وهو أحوج ما يكون إليه العبد، ويقول الله سبحانه وتعالى آمراً النّبيّ ﷺ قال له: ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﱠ [هود: ١١٢]. النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يطالبه ربّه ويأمره بالاستقامة، فكيف بمن هو دونه؟ ولهذا ذكر القرطبيّ في «تفسيره» رحمه الله، والنّوويّ عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: (ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آيةٌ هي أشقُّ وأشدُّ من هذه الآية) وهي قوله: ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﱠ [هود: ١١٢] وذلك لأنّ النّبيّ ﷺ قال لأصحابه لمّا قالوا له: «يا رسول الله قد أسرع إليك الشّيب» قال: «شيّبتني هودٌ وأخواتها» وهود وأخواتها في هذه الآية: ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾﱠ وجاء أمرٌ إلهيٌّ آخر كما في سورة الشّورى، قال الله سبحانه وتعالى لنبيّه الكريم في سورة الشّورى: ﱡﭐ ﲷ ﲸ ﲹﲺ ﲻ ﲼ ﲽﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅﳆ ﳇ ﳈ ﳉﱠ [الشورى: ١٥] فهذه آية أمر النّبيّ ﷺ أن يستقيم وأن لا يتّبع أهواء الّذين لا يعلمون، وهذا يدلّ عباد الله على أنّ الإنسان لا بدّ له أن يلزم هذا الصّراط المستقيم.
إنّ الدّعوة إلى الله سبحانه وتعالى أيّها المؤمنون ليست صيحات في وادٍ، ولا نفخات في رمادٍ، ولا استعراضاً للعضلاتِ، ولا مغازلةً للأقران، ولا كراسيَّ حكمٍ يتصارع عليها [......] الدّعوة إلى الله عزّ وجلّ هي قبل كلّ شيءٍ استقامةٌ على نهج الله عزّ وجلّ بتحقيق توحيد الألوهيّة وتوحيد المتابعة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيّه: ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱠ [فصلت: ٦].
إنّ التّمكين لدين الله عزّ وجلّ والفرح بنصر الله عزّ وجلّ ووعده الموعود، وزوال هذا الكابوس الّذي نزل بالمسلمين من الفقر والجوع والخوف والتّخلّف كلّه هذا هو رهن الاستقامة على أمر الله تبارك وتعالى، يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الجليل: ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱠ [الجن: ١٦] والمعنى أنّهم لو استقاموا على شرع الله سبحانه وتعالى باتّباع أمره واجتناب نهيه لأنزل عليهم الغيث الكثير، وهذا كنايةٌ لهم على الإنعام، كما قال الله عزّ وجلّ لبني إسرائيل والنّصارى: ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ ﱠ [المائدة: ٦٦]. لكن عباد الله! إذا زهد النّاس في الاستقامة ورغبوا عنها فإنّه يتسلّل الشّرّ إلى النّفوس، ويضمحلّ الإيمان ويضعف، ويصعب الخير ويذهب المعروف بين الناس، وحينئذٍ قد نُحرم حتّى الدعاء أو استجابة الدّعاء، الله سبحانه وتعالى قال عن موسى وهارون وقد دعيا ربّهم بقولهم: ﱡﭐ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﱠ [يونس: ٨٨] أجاب الله دعاءهما بشرطٍ فقال سبحانه وتعالى: ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱠ يونس: ٨٩] فشَرَط في استجابة الدّعاء الاستقامة على أمره، ولهذا لمّا كان النّاس يأتون النّبي ﷺ كما ثبت في الصّحيح جاءه رجل فقال: «يا رسول الله قد كثرت عليّ شرائع الإسلام، قل لي قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك» قال له النّبيّ ﷺ: «قل آمنت بالله ثمّ استقم» قال العلماء في هذا الحديث: فيه دلالةٌ على وجوب توحيد الله والإيمان به وترك الشّرك بأنواعه، والثّاني هو طاعة الله عزّ وجلّ المتمثّلة في القيام بالأعمال الصّالحة، وهذا الّذي قاله النّبيّ ﷺ لهذا الرّجل قاله أيضاً للصّحابيّ الجليل وهو معاذ بن جبل لمّا أراد السّفر قال: «يا رسول الله أوصني!» فقال له النّبيّ ﷺ: «آمرك بتقوى الله» فقال: «زدني!» قال: «إذا أسأت فأحسن» قال: «زدني!» قال: «استقم وحسّن خلقك» أمره بهذه الأمور.
والأحاديث في هذا كثيرة أيّها الإخوة ولا يمكن أن نستعرضها جميعاً، لكن كلّها لها دلالاتٌ على أنّ الإنسان مُطالبٌ بهذه الاستقامة بقدر ما يستطيع، حتّى قال النّبيّ ﷺ في الحديث: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أنّ خيرَ أعمالكم الصّلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلّا مؤمن» قال ابن القيّم: «فقد أمره بالاستقامة أوّلاً، فإن لم يقدر العبد عليها كالمقاربة أن يقارب[ .......] وإن لم يتمكّن من ذلك[......] قال النّبيّ ﷺ: «سدّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يدخل الجنّة أحدٌ بعمله» قالوا: «ولا أنت يا رسول الله؟» قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمةٍ منه و... » فأمرهم أوّلاً بالاستقامة، فإن عجَزوا عليها فالسّداد؛ وهي المقاربة في الأقوال والأعمال والأحوال والنّيّات، وإن عجزوا عن ذلك فلا يكونوا من أهل الصّنف الثّالث.
هذه الاستقامة عباد الله وهذه معانيها، وقد عرفتموها، فإنّ لكم في هذه الحياة اليوم حياة نظيفة وعيشة طيّبة، فهي من آثار هذه الاستقامة التي تزكو بها النّفوس وتطهر بها القلوب وتصفو بها الأرواح وتصفو بها أحوال الناس، وقد قال الله عزّ وجلّ: ﱡﭐ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﱠ [الحج: ٥٤].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يبصّرنا بعيوبنا، وأن يوفّقنا للزوم صراطه المستقيم والاستقامة على دينه، فليست هي أمنية يتمنّاها الإنسان، وإنّما هو اجتهادٌ وطلبٌ ودعاءٌ ومجاهدةٌ للنّفس وللشّيطان حتّى يوفّق العبد في هذه الحياة الدّنيا ويخرج سالماً منها إلى رضوان الله تعالى، الله سبحانه وتعالى نسأل بأسمائه الحسنى وبصفاته العُلَى أن [ ......] وأن يُميتنا على ملّة الإسلام، إنّه تعالى وليّ ذلك والقادر عليه وصلّى الله وبارك على نبيّنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً، والحمد لله ربّ العالمين.
يُبث في الإذاعة
جديد الموقع
تابعنا على الفايس بوك
موعظة الأسبوع
قالَ الإمامُ ابنُ حزمٍ -رحمه الله- : «إذا حضرت مجْلِس علمٍ فَلا يكن حضورك إِلاّ حُضُور مستزيدٍ علمًا وَأَجرًا، لا حُضُور مستغنٍ بِمَا عنْدك طَالبًا عَثْرَة تشيعها أَو غَرِيبَةً تشنِّعها، فَهَذِهِ أَفعَال الأرذال الَّذين لا يفلحون فِي الْعلم أبد
اقرأ المزيدمؤلفات الشّيخ
الأكثر مشاهدة
زوّار الموقع
مواقع مفيدة :